فصل: تَمَيّزُ الْمُؤْمِنِ الصّادِقِ مِنْ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة آل عمران: الآيات 165- 168]

{أَوَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالله أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)}.
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يريد: ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها} يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين. ولَمَّا نصب بقلتم.
و{أَصابَتْكُمْ} في محل الجرّ بإضافة لَمَّا إليه وتقديره: أقلتم حين أصابتكم. وأَنَّى هذا نصب لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع.
فإن قلت: علام عطفت الواو هذه الجملة؟ قلت: على ما مضى من قصة أحد من قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، كأنه قيل: أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا، أنى هذا: من أين هذا. كقوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هذا} لقوله: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {مِنْ عِنْدِ الله}.
والمعنى: أنتم السبب فيما أصابكم، لاختياركم الخروج من المدينة، أو لتخليتكم المركز.
وعن علىّ رضى الله عنه: لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم إِنَّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على النصر وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى وَما أَصابَكُمْ يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين (ف) هو كائن (بإذن الله) أي بتخليته، استعار الإذن لتخليته الكفار، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأنّ الآذن مخل بين المأذون له ومراده وَلِيَعْلَمَ وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون، وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء وَقِيلَ لَهُمْ من جملة الصلة عطف على نافقوا، وإنما لم يقل فقالوا لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاء المؤمنين لهم إلى القتال، كأنه قيل: فما ذا قالوا لهم. فقيل: قالوا: لو نعلم. ويجوز أن تقتصر الصلة على: {نافَقُوا}، ويكون {وَقِيلَ لَهُمْ} كلاما مبتدأ قسم الأمر عليهم بين أن يقاتلوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون، وبين أن يقاتلوا إن لم يكن بهم غم الآخرة دفعا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فأبوا القتال وجحدوا القدرة عليه رأسًا لنفاقهم ودغلهم وذلك ما روى أن عبد الله بن أبىّ انخزل مع حلفائه، فقيل له، فقال ذلك. وقيل أَوِ ادْفَعُوا العدوّ بتكثيركم سواد المجاهدين وإن لم تقاتلوا لأنّ كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه.
وعن سهل بن سعد الساعدي- وقد كف بصره-:
لو أمكننى لبعت دارى ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوهم. قيل: وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله: {أَوِادْفَعُوا} أراد: كثروا سوادهم. ووجه آخر وهو أن يكون معنى قولهم لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لَاتَّبَعْناكُمْ يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء بالأنفس إلى التهلكة، لأنّ رأى عبد الله كان في الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يعنى أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخزلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا، تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر. وقيل: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأنّ تقليلهم سواد المسلمين بالانخزال تقوية للمشركين يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ لا يتجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم ولا تعى قلوبهم منه شيئا. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم، وأنّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم، خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم وَالله أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق، وبما يجرى بعضهم مع بعض من ذمّ المؤمنين وتجهيلهم وتخطئة رأيهم والشماتة بهم وغير ذلك، لأنكم تعلمون بعض ذلك علمًا مجملا بأمارات، وأنا أعلم كله علم إحاطة بتفاصيله وكيفياته الَّذِينَ قالُوا في إعرابه أوجه: أن يكون نصبا على الذمّ أو على الردّ على الذين نافقوا، أو رفعا على هم الذين قالوا أو على الإبدال من واو يكتمون. ويجوز أن يكون مجرورًا بدلا من الضمير في بأفواههم أو قلوبهم، كقوله:
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالماءِ حَاتِمُ

لِإِخْوانِهِمْ لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب وفي سكنى الدار وَقَعَدُوا أي قالوا وقد قعدوا عن القتال: لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ معناه:
قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلا وهو القعود عن القتال، فجدوا إلى دفع الموت سبيلا، يعنى أن ذلك الدفع غير مغن عنكم، لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة، ولابد لكم من أن يتعلق بكم بعضها.
وروى أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقًا. فإن قلت: فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود، فما معنى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}؟ قلت: معناه أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره، لأن أسباب النجاة كثيرة، وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقالتكم؟ وما أنكرتم أن يكون السبب غيره. ووجه آخر: إن كنتم صادقين في قولكم: لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا، يعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين. وقوله: {فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} استهزاء بهم، أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت، فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
جوَّزوا في موضع الذين الألقاب الثلاثة: الرفع والنصب والجر، فالرفعُ من ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدهما: أن يكون مرفوعًا على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هم الذين.
ثانيها: أنه بدل من واو {يكتمون}.
ثالثها: أنه مبتدأ، والخبر قوله: {قل فادْرءوا} ولابد من حذف عائدٍ، تقديره: قُلْ لَهُمْ.
والنصبُ من ثلاثة أوجه- أيضا-:
أحدها: النصبُ على الذَّم، أي: أذم الذين قالوا.
ثانيها: أنه بدل من {الذين نافقوا}.
ثالثها: أنه صفة.
والجر من وجهينِ: البدل من الضمير في {بأفواههم} أو من الضمير في {قلوبهم} كقول الفرزدق: [الطويل]
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِمًا ** عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ

بجر حاتم على أنه بدل من الهاء في جوده وقد تقدم الخلافُ في هذه المسألةِ وقال أبو حيان: وجوَّزوا في إعراب {الذين} وجُوهًا:
الرفع، على النعت لـ {الذين نافقوا} أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب... فذكره إلى آخره.
قال شهابُ الدينِ: وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّ {الذين نافقوا} منصوب بقوله: {وليعلم} وهم- في الحقيقة- عطف على {المؤمنين} وإنَّمَا كرر العاملَ توكيدًا، والشيخُ لا يخفَى عليه ما هو أشكلُ من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيرَه في هذا السهو- وهو الظاهر من كلامه- ولم ينظر في الآية، اتكإلا على ما رآه منقولًا، وكثيرًا ما يقع الناس فيه، وأن يُعْتَقَدَ أنّ {الذين} فاعل بقوله: {وليعلم} أي: فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين، وليعلم المنافقون، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة.
قوله: {وقعدوا} يجوز في هذه الجملة وجهانِ:
أحدهما: أن تكون حالية من فاعل {قالوا} وقد مرادة أي: وقد قعدوا، ومجيء الماضي حالًا بالواو وقد أو بأحدهما، أو بدونهما، ثابتٌ من لسان العربِ.
الثاني: أنها معطوفة على الصلة، فتكون معترضة بين {قالوا} ومعمولها، وهو {لو أطاعونا}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

قال عليه الرحمة:
{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}.
الذين ركنوا إلى ما سوَّلت لهم نفوسهم من إيثار الهوى، ثم اعترضوا على من يصرف أحكام القضاء وقالوا لو تَحَرَّزُوا عن البروز للقتال لم يسقطوا عن درجة السلامة.. لمَذْمُومةٌ تلك الظنون، ولَذَاهِبَةٌ عن شهود التحقيق تلك القلوب.
قُلْ لهم- يا محمد- استديموا لأنفسكم الحياة، وادفعوا عنها هجوم الوفاة!
ومتى تقدرون على ذلك؟! هيهات هيهات!. اهـ.

.من فوائد الفخر:

{قالوا لإخوانهم} أي قالوا لأجل إخوانهم، وقد سبق بيان المراد من هذه الأخوة، الأخوة في النسب، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدار، أو في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عبادة الأوثان؟ والله أعلم. اهـ.

.من فوائد القرطبي:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} معناه لأجل إخوانهم، وهم الشهداء المقتولون من الخَزْرَج؛ وهم إخوة نسب ومجاورة، لا إخوة الدِّين.
أي قالوا لهؤلاء الشهداء: لو قعدوا، أي بالمدينة ما قتِلوا.
وقيل: قال عبد الله بن أبيّ وأصحابُه لإخوانهم، أي لأشكالهم من المنافقين: لو أطاعونا، هؤلاء الذين قُتِلوا، لمَا قتِلوا.
وقوله: {لَوْ أَطَاعُونَا} يريد في ألاّ يخرجوا إلى قريش.
وقوله: {وَقَعَدُواْ} أي قالوا هذا القول وقعدوا بأنفسهم عن الجهاد؛ فردّ الله عليهم بقوله: {قُلْ فَادْرَءُوا} أي قل لهم يا محمد: إن صدقتم فادفعوا الموت عن أنفسكم.
والدَّرْء الدفعُ.
بيّن بهذا أن الحَذَر لا ينفع من القَدَر، وأن المقتولَ يقتل بأجله، وما عَلِم الله وأخبر به كائنٌ لا محالَة.
وقيل: مات يومَ قيل هذا، سبعون منافقًا.
وقال أبو الليث السَّمْرَقَنْدِيّ: سمعت بعض المفسّرين بسَمْرَقَنْد يقول: لما نزلت الآية: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} مات يومئذ سبعون نفسًا من المنافقين. اهـ.

.من فوائد ابن القيم:

قال عليه الرحمة:

.فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ الّتِي كَانَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ:

وَقَدْ أَشَارَ الله- سُبْحَانَهُ وَتعالى- إلَى أُمّهَاتِهَا وَأُصُولِهَا فِي سُورَةِ آل عِمْرَانَ حَيْثُ افْتَتَحَ الْقِصّةَ بِقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عِمْرَانَ 121] إلَى تَمَامِ سِتّينَ آيَةً.

.تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ:

فَمِنْهَا: تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَالْفَشَلِ وَالتّنَازُعِ وَأَنّ الّذِي أَصَابَهُمْ إنّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ كَمَا قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آلُ عِمْرَانَ 152]. فَلَمّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتِهِمْ لِلرّسُولِ وَتَنَازُعِهِمْ وَفَشَلِهِمْ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدّ حَذَرًا وَيَقَظَةً وَتَحَرّزًا مِنْ أَسْبَابِ الْخِذْلَانِ.

.{وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ}:

وَمِنْهَا: أَنّ حِكْمَةَ الله وَسُنّتَهُ فِي رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ جَرَتْ بِأَنْ يُدَالُوا مَرّةً وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى لَكِنْ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ فَإِنّهُمْ لَوْ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ وَلَمْ يَتَمَيّزْ الصّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ اُنْتُصِرَ عَلَيْهِمْ دَائِمًا لَمْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الأمريْنِ لِيَتَمَيّزَ مَنْ يَتّبِعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقّ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمّنْ يَتّبِعُهُمْ عَلَى الظّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصّةً.

.الرّسُلُ تُبْتَلَى ثُمّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ:

وَمِنْهَا: أَنّ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ الرّسُلِ كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ سِجَالٌ يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى قَالَ كَذَلِكَ الرّسُلُ تُبْتَلَى ثُمّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَة.

.تَمَيّزُ الْمُؤْمِنِ الصّادِقِ مِنْ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ:

وَمِنْهَا: أَنْ يَتَمَيّزَ الْمُؤْمِنُ الصّادِقُ مِنْ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ فَإِنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا أَظْهَرَهُمْ الله عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَطَارَ لَهُمْ الصّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الإسلام ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الله عَزّ وَجَلّ أَنْ سَبّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُءُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَتَكَلّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ وَظَهَرَتْ مُخَبّآتُهُمْ وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا وَانْقَسَمَ النّاسُ إلَى كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ انْقِسَامًا ظَاهِرًا وَعَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ أَنّ لَهُمْ عَدُوّا فِي نَفْسِ دُورِهِمْ وَهُمْ مَعَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُمْ فَاسْتَعَدّوا لَهُمْ وَتَحَرّزُوا مِنْهُمْ. قَالَ الله تعالى: {مَا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عِمْرَانَ 179] أَيْ مَا كَانَ الله لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ حَتّى يَمِيزَ أَهْلَ الإيمان مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ كَمَا مَيّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الّذِي يَمِيزُ بِهِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَإِنّهُمْ مُتَمَيّزُونَ فِي غَيْبِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَمِيزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الّذِي هُوَ غَيْبٌ شَهَادَةً. وَقوله: {وَلَكِنّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} اسْتِدْرَاكٌ لِمَا نَفَاهُ مِنْ اطّلَاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ سِوَى الرّسُلِ فَإِنّهُ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ كَمَا قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الْجِنّ: 27] فَحَظّكُمْ أَنْتُمْ وَسَعَادَتُكُمْ فِي الإيمان بِالْغَيْبِ الّذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ.

.اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيّةِ أَوْلِيَائِهِ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ:

وَمِنْهَا: اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَفِيمَا يُحِبّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ وَظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطّاعَةِ وَالْعُبُودِيّةِ فِيمَا يُحِبّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ فَهُمْ عَبِيدُهُ حَقّا وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ السّرّاءِ وَالنّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ.

.حِكْمَةُ تَبَدّلِ الْأَحْوَالِ:

وَمِنْهَا: أنه سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوّهِمْ فِي كُلّ مَوْطِنٍ وَجَعَلَ لَهُمْ التّمْكِينَ وَالْقَهْرَ لِأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النّصْرَ وَالظّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الّتِي يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمْ الرّزْقَ فَلَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إلّا السّرّاءُ وَالضّرّاءُ وَالشّدّةُ وَالرّخَاءُ وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ فَهُوَ الْمُدَبّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أنه بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.